بسم الله االرحمن الرحيم
حج البيت
ها هي الرحال تُشد إلى بيت الله العتيق، وها هي القلوب المشتاقة تتطلع إلى طيب المقام بمهبط الوحي ومجمع الرسالات، وها هو الكون كله يردد مع الحجيج والعمار؛ فرحا بهذا الأيام المباركة:
الكون لبى والحجيج: الله حي **** لبيك ربي في مدى الأكوان ضي
من كل فج قد أتى الناس ابتهالاً **** وابتهاجاً يقتفون خطى النبي
والكائنات مسبحات والقلوب **** مهللات في ثرى الله العلي
رب تجلى والعباد قلوبهم **** عما سواه خلية من كل شيالحج كما نعلم جميعا هو الركن الخامس من أركان الإسلام، وقد حفلت كتب الفقه والعبادات وغيرها بالحديث عن شعائر الحج وأعماله
بدءامن النية ومرورابالإحرام والتلبية والطواف والسعي والمبيت بمنى والوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة
وانتهاء برمي الجمرات والحلق أو التقصير، وأيام التشريق.
وراء كل منسك حكمة
لكن ما أود التوقف عنده ملياً، تلك المعاني الغائبة عن الكثيرين، في هذه الشعيرة الكريمة والعبادة العظيمة، ولسوف يجد المسلم بوجه عام
وحاج بيت الله الحرام بوجه خاص، متعة كبيرة، إذا ما تطلع إلى الأسرار الكامنة وراء كل منسك من مناسك الحج
يعلم المسلم أنه لا وصول إلى الله سبحانه إلا بالتجرد والانفراد لمناجاته، وقد كان الرهبان ينفردون في الجبال؛
طلبا للأنس بالله، فجعل الله الحج رهبانية هذه الأمة ؛ولهذا فإن معظم أو كل شعائر الحج تدور حول هذا المعنى العظيم ومن ذلك:
أولاً: الاغتسال والتطيب
فمن سنن الحج الاغتسال والتطيب، وهذا ما يتم للميت تماماً، إذ يُغسل ويطيب، وفي هذا تذكر للموت وشدته.
ثانياً: ملابس الإحرام
عبارة عن إزار ورداء أبيضين، فإذا لبسهما الحاج تذكر أنه سيلقى ربه تعالى في زي مخالف لزي أهل الدنيا، فهما يذكران بكفن الميت.
ثالثاً: توديع الحاج لأهله
بقوله: "أستودع الله دينكم وأماناتكم وخواتيم أعمالكم"، وفي هذا تذكرة بتوديع الميت لأهله، وهو على فراش الموت، ووصيته إياهم بصالح الأعمال.
رابعاً: تذكر معنى الهجرة
فالذين هاجروا من مكة إلى المدينة، فروا بدينهم إلى الله، وترك صهيب الرومي ماله كله، وتزود بخير زاد
وهو تقوى الله تعالى القائل في محكم التنزيل في سياق الحديث عن الحج
: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب } [ البقرة : 197]ورد في سبب نزول هذه الآية أن بعض أهل اليمن تركوا التزود في سفرهم للحج وقالوا: أنذهب إلى الله تعالى
ولا يطعمنا؟ فأمرهم الله تعالى بالتزود لسفرهم، والتعفف عن سؤال الناس أو المنّ على الله تعالى. (تفسير ابن كثير ، الجزء الأول، تفسير سورة البقرة، الآية 197)
فإذا كان صهيب رضي الله عنه قد ترك ماله كله لله، فإن الحاج يصحب بعض ماله، وما أعظم الإنفاق في سبيل الله، وما أجزل ثواب فاعله
وينبغي أن يحذر الحاج من فساد عمله بسبب الرياء والسمعة، فإن ذلك لن ينفعه، كالطعام الرطب الذي يفسد عند أول منازل السفر، فيبقى صاحبه وقت الحاجة متحيراً.
وعندما هاجر الصحابة الكرام كانت قلوبهم خالية من كل شيء، لم يكن هناك ما يشغل قلوبهم سوى ذكر الله تعالى وإقامة دينه وتطبيق منهجه في الأرض، وهكذا الحجاج يهاجرون إلى الله تعالى شعثاً غبراً ضاحين، ملبين ربهم تعالى:
لبيك يا رب الورى **** لبيك أنت المنعم
هذا نداؤك قد سرى **** والكل باسمك محرمخامساً: فإذا لبى فليستحضر بتلبيته إجابة الله تعالى
إذ قال سبحانه: {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق } [الحج : 27]. وليرجُ القبول، وليخش عدم الإجابة، وما من سبيل إلى ذلك إلا تقوى الله تعالى، فهو القائل في كتابه الكريم: {إنما يتقبل الله من المتقين } [المائدة : 27].
سادساً: إذا وصل الحاج إلى حرم الله تعالى
فليستحضر نية اللجوء والفرار إليه سبحانه؛ فإنه لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه، وينبغي عليه أن يرجو الأمن من العقوبة
وأن يخشى ألا يكون من أهل القرب، غير أنه ينبغي أن يكون الرجاء غالباً ؛ لأن الكرم عميم، وحق الزائر مرعي، وذمام المستجير لا يضيع.
وليلهج بلسانه حال ومقاله بقول القائل:
إلهي لا تعذبني فإني **** مقر بالذي قد كان مني
ومالي حيلة إلا رجائي **** وعفوك إن عفوت وحسن ظني
فكم من زلة لي في البرايا **** وأنت علي ذو فضل ومن
إذا فكرت في ندمي عليها **** عضضت أناملي وقرعت سني
يظن الناس بي خيرا وإني **** لشر الناس إن لم تعف عنيمن الرؤية حتى الحلق
سابعا: فإذا رأي البيت الحرام
استحضر عظمته في قلبه، وشكر الله تعالى على تبليغه رتبة الوافدين إليه، فكم من أناس تتطلع قلوبهم شوقاً
وترنو أفئدتهم حبا لبيت الله العتيق، ولكن الله تعالى لم يقدر لهم ذلك، وعن هؤلاء يعبر قول القائل:
يا راحلين إلى البيت الحرام لقد **** سرتم جسوما ونحن سرنا أرواحا
إنا أقمنا على عذر وعن قدر **** ومن أقام على عذر فقد راحاثامنا: عند الطواف بالبيت
يستشعر الحاج والمعتمر عظمة الله تعالى، وعظمة الطواف ؛ فإنه صلاة، وليتذكر أن الفقير إذا أراد شيئا من الغني ذهب إلى بيته أو قصره
وأخذ يدور حوله ينتظر لحظة فتحه أو عسى أن يجد فتحة يدخل منها، وكذلك من يطوف ببيت الله تعالى
إنه ينتظر لحظة يتجلى فيها الرب الكريم عليه، ويفتح له أبواب التوبة والمغفرة والقبول
فيلج إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين.
تاسعا: عند استلام الحجر
يعتقد أنه مبايع لله تعالى على طاعته ، ويضم إلى ذلك عزيمته على الوفاء بالبيعة
وعند تقبيله إياه يتذكر التجرد والطاعة التامة والاستسلام الكامل لله تعالى
وليسترجع مقولة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
"والله إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم - يقبّلك ما قبلتك" (رواه مسلم).عاشرا: ليتذكر عند تعلقه بأستار الكعبة والالتصاق بالملتزم
لجوء المذنب إلى سيده طالبا منه القرب والعفو والصفح، وليكثر من عبراته في هذا الموضع
إذ قال – صلى الله عليه وسلم - عندما التزمه : ( هنا تسكب العبرات ) وليس أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من دمعة نزلت من خشية الله
وقطرة دم أريقت في سبيل الله، ثم إن من العينين اللتين لا تمسهما النار، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم : ( عين بكت من خشية الله ) [ رواه مسلم ]
وقال صلى الله عليه وسلم: ( ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين وأثرين: قطرة دموع من خشية الله، وقطرة دم تهراق في سبيل الله
وأما الأثران فأثر في سبيل الله تعالى، وأثر في فريضة من فرائض الله ) [ رواه الترمذي أيضاً ]، ولو لم يجد بكاء تكلفه
فلعل التكلف ينقلب طبيعة، كما قال صلى الله عليه وسلم: ( ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله ).[رواه البخاري].
حادي عشر: إذا شرب من ماء زمزم
تذكر رحمة الله تعالى عندما أدركت هاجر ورضيعها إسماعيل في هذا الموضع المبارك، وكيف أن مع العسر يسرا
وأن من جد وجد ومن زرع حصد، وأن رحمة الله قريب من المحسنين الذين يأخذون بالأسباب، ثم يتوكلون على الله تعالى.
ثاني عشر: إذا سعى بين الصفا والمروة
تذكر سعي السيدة هاجر- عليها وعلى نبينا السلام - وكيف أنها مع ضعفها لكونها امرأة سعت في الحر الشديد والرمال الحارقة سبعة أشواط
بحثا عن الماء لها ولولدها الرضيع الذي أوشك على الهلاك من شدة العطش. إنها لم تكتف بشوط واحد أو اثنين أو ثلاثة
ثم أدركها اليأس من رحمة الله، بل إنها طافت سبعة أشواط كاملة وصعدت بعد كل مرة جبلاً
حتى إنه لم يبق لها أدنى قوة تواصل بها السعي، فأتى فرج الله تعالى، وصدق القائل:
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها **** فرجت وكنت أظنها لا تفرج
كم من شدةٍ نزلت يضيق بها الفتى **** ذرعاً وعند الله منها المخرجوليمثل الصفا والمروة بكفتي الميزان، وتردده بينهما في عرصات يوم القيامة،
أو تردد العبد إلى باب دار الملك، إظهارا لخلوص خدمته، ورجاء الملاحظة بعين رحمته، وطمعا في قضاء حاجته.
ثالث عشر: أما عند وقوفه على عرفة
فليتذكر الحاج بما يرى من ازدحام الخلق وارتفاع أصواتهم واختلاف لغاتهم وأجناسهم يوم القيامة
وموقفه العظيم واجتماع الأمم في ذلك الموطن، واستشفاعهم وتوسلهم إلى الله تعالى، أن يدركهم برحمته وأن يجود عليهم بفضله عليهم.
رابع عشر: فإذا رمى الجمار
فليقصد بذلك الانقياد للأمر، وليتذكر عداوة إبليس اللعين، وأن عداوته ستزداد منذ هذه اللحظة التي رجمه فيها فأزله وأهانه
وحقر من شأنه، ومن ثم فليحذر من مكره وتربصه الدوائر به
كيف لا وقد قال الله تعالى:
{إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير }؟ [ فاطر : 6 ].خامس عشر: أما عند الحلق أو التقصير
فإنه يتذكر أنه أزال عنه هذا الشعر الذي عصى به الله تعالى أو بعضه،كأنه يعقد عهدا جديدا مع الله تعالى بالسير في طريقه والتزام شرعه ولزوم دينه سبحانه
فليحذر من النكوث بهذا العهد، أو النكوص عن هذا العقد. فإذا فرغ الحاج من أعمال الحج، وطاف طواف الوداع
فليتذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم:
(من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه ) [ متفق عليه ] روي عن الحسن رضي الله عنه أنه قال: "من علامات قبول الحج أن يعود الحاج زاهداً في الدنيا، مقبلا على الآخرة".
فهنيئا لمن قبل الله حجه، فعاد كيوم ولدته أمه، ويا لقرة عين من سعد بطيب المقام في مهبط الوحي ومجمع الرسالات
ويا لسعادته بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم .