إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له
ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد:
فإن من المسائل الفقهية التي يكثر السؤال عنها وتمس الحاجة لبيانها مسألة " حكم مس المصحف بغير طهارة "(*) . تحرير محل النزاع :
اتفق العلماء على مشروعية الوضوء لمس المصحف ، واختلفوا هل يجب الوضوء أم لا ؟ على قولين :
القول الأول: أن القرآن لا يُمس إلا من طاهر فلا يجوز مسه من محدث ، وهو قول جماهير السلف والخلف وهو مذهب الحنفية [1]، والمالكية [2]، والشافعية [3]، والحنابلة [4]، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية [5]. أدلة هذا القول :
1- ما رواه مالك عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِى بَكْرِ بن مُحَمد بن عَمْرو بْنِ حَزْمٍ، أَنَّ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: أَنْ لاَ يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلاَّ طَاهِرٌ "[6] .
وهذا الحديث روي موصولاً ومرسلاً فرَوَاهُ مَالِكٌ مُرْسَلاً، وَوَصَلَهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، والصحيح من حيث الإسناد أن الحديث مرسل. والخلاصة: أن هذا الحديث لا يصح مرفوعاً من حيث الإسناد .
لكن مع ذلك الإمام أحمد سئل عن هذا الحديث قال: أرجو أن يكون صحيحاً، وقال الأثرم: احتج الإمام أحمد بهذا الحديث[7].
فالإمام أحمد في روايتين عنه مرة صححه ومرة احتج به، وهذا دليل على أنه يحتج ويُصحح الحديث وإن كان لا يرى أن إسناده محفوظاً.
وسبب قبول الإمام أحمد وغيره من الأئمة لهذا الحديث مع أنه من المراسيل: أن الأمة تلقت هذا الحديث بالقبول وعملت بمقتضاه.
(قال شيخ الإسلام :
" قال الإمام أحمد: لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم كتبه له " [8].
وقد لخص الحافظ الكلام عنه فقال :
" وقد صحح الحديث بالكتاب المذكور جماعة من الأئمة، لا من حيث الإسناد، بل من حيث الشهرة؛ فقال الشافعي في رسالته: لم يقبلوا هذا الحديث حتى ثبت عندهم أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم") [9]. وينتج من هذا كله أن الحديث حُجة.
2- قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} [الواقعة: 77 - 79]
والاستدلال بهذه الآية غير صحيح؛ لأنه واضح من السياق أن المقصود بالذي لا يُمس إلا من المطهرين: الكتاب المكنون، والمقصود بالكتاب المكنون: اللوح المحفوظ [10]بدليل أنه هو أقرب مذكور إلى الضمير، فهذه الآية ليس فيها دليل على اشتراط الطهارة. قال ابن القيم :
" وسمعت شيخ الإسلام يقرر الاستدلال بالآية على أن المصحف لا يمسه المحدث بوجه آخر فقال: هذا من باب التنبيه والإشارة إذا كانت الصحف التي في السماء لا يمسها إلا المطهرون فكذلك الصحف التي بأيدينا من القرآن لا ينبغي أن يمسها إلا طاهر والحديث مشتق من هذه الآية " [11] والصواب: أنه ليس فيه دليل لا من طريق التنبيه ولا من غيره.
ولولا وجود النصوص الصريحة الدالة على أنه لا يمس المصحف إلا طاهر لم يكن في هذه الآية متمسك بحال من الأحوال للقائلين بأنه يُشترط الطهارة لمن أراد أن يمس المصحف .
3- (أن هذا فعل أصحاب النبي عليه السلام كما نقله عنهم الإمام إسحاق بن راهويه[12].
قال شيخ الإسلام " وهذا قول سلمان الفارسي وعبد الله بن عمر وغيرهما. ولا يعلم لهما من الصحابة مخالف ")[13]. القول الثاني:أن الطهارة لمس المصحف مستحبة ، ويجوز أن يُمس ولو بلا طهارة ، وهذا مذهب الظاهرية ونصره ابن حزم [14].
واستدل على ذلك بما يلي :
1- (أنه لا يوجد دليل لا من الكتاب ولا من السنة الصحيحة يدل على المنع ، ومس المصحف لقراءة القرآن من أفعال الخير المندوب إليها مأجور فاعلها، فمن ادعى المنع فيها في بعض الأحوال كلف أن يأتي بالبرهان)[15] .
2- حديث عبد الله بن عباس أن أبا سفيان بن حرب أخبره: أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش ... الحديث وفيه : ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى، فدفعه إلى هرقل، فقرأه فإذا فيه " بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم: سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين " و {يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون}.... [16].
قال ابن حزم " فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بعث كتابا وفيه هذه الآية إلى النصارى وقد أيقن أنهم يمسون ذلك الكتاب " [17]
والجواب عن هذا الدليل: أن الآية الموجودة في الكتاب ليست قرآناً بل هي آية في خطاب أو كتاب فهو يشبه ما يذكر من الآيات في كتب التفاسير[18].
3-أن المسلمين مازالوا يُمكنون الصبيان من القرآن , ولو كان لا يمسه إلا المطهرون لم يفعلوا.
والجواب عن هذا الدليل: أن هذا إنما جاز للحاجة وللمصلحة المترجحة؛ إذ لو مُنع الصبيان عن القرآن إلا بعد الطهارة لأدى ذلك إلى قلة قراءتهم للقرآن.
الراجح:
الراجح - إن شاء الله - مع القائلين باشتراط الطهارة لمس القرآن، لاسيما وأن هذا مذهب جماهير السلف والخلف - رحمهم الله- ، وأما أدلة ابن حزم فضعيفة ، وقد تم مناقشتها .