الحمد لله..
أكرر اعتذارى للقارئ الكريم على إشغال وقته فى قراءة ما يبدو محاولة لإثبات أن الإسلام يأمر بحسن الخلق!
ولكن..
قد مر فى الجزء الأول من الخاطرة أن المقصود بقوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} هو عموم الناس وعموم الإحسان.
وبقى أن نجيب عن السؤالين الأخيرين من الأسئلة الأربعة:
السؤال الثالث:
ما صلة هذا الأمر ببقية التعاليم التى فى نفس الآية؟
والجواب:
تأملوا معى سياق الآية: {وإِذْ أَخَذْنا ميثاقَ بَنى إِسرائيلَ لاَ تَعبُدُونَ إلاَّ اللهَ وبِالوالدَينِ إِحساناً وذِى القُرْبَى واليتامَى والمساكينِ وقُولُوا للنَّاسِ حُسْناً وأَقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَولَّيتُمْ إلاَّ قليلاً منكُمْ وأَنتم مُعْرِضُونَ}.
فقد أخذ الله الميثاق على بنى إسرائيل بالعهد التالى:
1. أن يوحدوه ولا يعبدوا غيره.
2. أن يحسنوا تعاملهم قولاً وعملاً مع الدوائر المحيطة بهم، حسب درجة الصلة: (الوالدين فالأقارب فالأيتام فالمساكين).
3. أن يقولوا حُسْناً للناس، كل الناس.
4. أن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة.
ثم عاب عليهم إعراضهم عن الالتزام بالميثاق..
وهنا نلاحظ عظمة الخطاب من جوانب عدة:
- جمع التوجيه الإلهى هنا بين الإحسان الفعلى والقولى، كما ذكر الحافظ ابن كثير فى تفسيره.
- قدّم الله إحسان القول والفعل على الصلاة والزكاة، مع أنهما من أهمّ الفرائض، بل هما من أركان الإسلام!
وكأن الحق تعالى ينبهنا إلى أن الفرائض لا تستقيم ولا تثمر دون حسن المعاملة مع الناس، وهذا درس عظيم ما أشد حاجتنا إليه اليوم!
وما أعذب عبارة الشيخ العارف أحمد ابن عجيبة الحسنى فى تفسيره البحر المديد، حيث يشير إلى هذا المعنى بقوله:
«وأخذ العهد على المتوجهين أن يكلموا الناس بالملاطفة والإحسان، ويرشدوهم إلى الكريم المنان، ويقيموا الصلاة بالجوارح والقلوب، ويؤدوا زكاة نفوسهم بتطهيرها من العيوب».
تنبيه:
يؤكد هنا الطاهر بن عاشور فى تفسيره ضرورةَ أن يكون حسن القول نابعاً من اعتقاد القلب بما ينطق به اللسان، وليس مجرد المجاملة اللفظية.. قال رحمه الله: «وجعل الإحسان لسائر الناس بالقول، لأنه القَدْر الذى يمكن معاملة جميع الناس به، وذلك أن أصل القول أن يكون عن اعتقاد، فهم إذا قالوا للناس حسناً فقد أضمروا لهم خيراً، وذلك أصل حسن المعاملة مع الخلق، قال النبى صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)».
كما نبهنا الله إلى أننا إن عجزنا عن مساعدة كل الناس مساعدة عملية، فلا ينبغى أن نبخل عليهم بحسن المعاملة والقول الحسن وبذل النصيحة، قال الإمام البقاعى فى تفسيره: «ولما لم يكن وسع الناس عامة بالإحسان بالفعل ممكناً، أمر بِجَعل ذلك بالقول».
ومن جميل النظرة المستوعبة للسياق قول الشيخ ابن عجيبة فى تفسيره: «ذكر الحق تعالى فى هذا العهد أربعة أعمال: عمل خاص بالقلب، وهو التوحيد، وعمل خاص بالبدن، وهو الصلاة، وعمل خاص بالمال، وهو الزكاة، وعمل عام، وهو الإحسان. ورتَّبها باعتبار الأهم فالأهم، فقدّم الوالدين لتأكيد حقهما الأعظم، ثم القرابة لأن فيهم أجر الإحسان وصلة الرحم، ثم اليتامى لقلّة حيلتهم، ثم المساكين لضعفهم».
السؤال الرابع:
هل هذه التعاليم متوجهة إلينا أم أنها خاصة ببنى إسرائيل؟ وهل الأمر بحسن القول للناس باقٍ أم أنه منسوخ بآية السيف؟
والجواب:
عند تأمل السياق يظهر جلياً أن التعاليم التى فى الآية ثبت توجيهها إلينا فى الشريعة الإسلامية، فقد أمرنا الله بتوحيده وبالإحسان إلى الوالدين وذوى القربى واليتامى والمساكين وبالصلاة والزكاة، وجاء الأمر بحسن القول لجميع الناس فى وسط هذه التعاليم، فكيف يُستساغ استثناء هذا الأمر من بينها باعتبار أنه خاص ببنى إسرائيل أو أنه منسوخ بآية السيف؟
وكيف يقبل عاقل باعتبار الأمر بحسن الخلق شرعاً خاصاً ببنى إسرائيل ولا يكون فى شريعة الإسلام السمحة الخاتمة للشرائع؟ أم كيف يقبل عاقل اعتبار الأخلاق والقيم محلاً للنسخ والتغيير وهى من ثوابت الفطرة السليمة؟
لا سيما أن النبى صلى الله عليه وآله وسلّم قد قال: «إنَّما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاق».
وعند تأمل كتب التفسير نجد أن جمهور المفسرين يعتمدون القول بأن هذه التعاليم تشمل الأمة المحمدية وأنها باقية ولم تُنسخ، بالرغم من نقلهم بعض المرويات التى تقول بخلاف ذلك.
وقد جزم بذلك الإمام الألوسى فى «روح المعانى» بعد نقل الأقوال المروية، إذ قال: «ومن قال إن المخاطب به الأمة وهو محكم أو منسوخ بآية السيف، أو إن (الناس) مخصوص بصالحى المؤمنين، إذ لا يكون القول الحسن مع الكفار والفساق لأنا أمرنا بلعنهم وذمهم ومحاربتهم - فقد أبعد».
وقد أورد الإمام الفخر الرازى فى التفسير الكبير والإمام ابن حيان الأندلسى فى البحر المحيط، أدلة من القرآن تؤكد شمول الأمة المحمدية بهذه التعاليم السامية وبقائها دون نسخ، إذ قالا: «وزعم أبوجعفر محمد بن على الباقر أن هذا العموم باقٍ على ظاهره، وأنه لا حاجة إلى التخصيص، وهذا هو الأقوى، والدليل عليه أن موسى وهارون مع جلال منصبهما أُمِرا بالرفق واللين مع فرعون، وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم مأمور بالرفق وترك الغلظة. وكذلك قوله تعالى: {ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ والمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}، وقوله تعالى: {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ}، وقوله: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً}، وقوله: {وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِيْن}».
ونبّه الشيخ العارف ابن عجيبة على أن هذه التعاليم السامية إنما تذكر فى القرآن لنأخذ منها العبرة، فقال فى تفسيره: «كل عهد أُخذ على بنى إسرائيل يؤخذ مثله على الأمة المحمدية، وهذا حكمة ذكر قصصهم لنا، وسرد مساوئهم علينا، لنتحرز من الوقوع فيما وقعوا فيه، فنهلك كما هلكوا».
وأخيراً..
وبعد أن اتضح من قوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً}، أنّ الآية:
1. تشمل جميع الناس، وليست خاصة بمخاطبة الصالحين أو المؤمنين.
2. تعنى عموم معانى الإحسان، وليست مقتصرة على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
3. ثابتة فى الشريعة الإسلامية، وليست خاصة ببنى إسرائيل.
4. محكمة باقية، وليست منسوخة.
أقول لإخوتى الذين حاولوا تبرير بذاءة ما نطقت به ألسنتهم بإلصاقها بشرع الله: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً}.