إلى من يختصرون التاريخ . إلى من يريدون محو صفحات مضيئة من تاريخ الأمة . إلى الحاقدين على الوطن . إلى من يقومون بتخطي وتزييف وتشويه نضال الشعوب العربية . إلى من يقدمون للعدو خدمات غير مدفوعة الأجر وأحياناً مدفوعة . إليهم أقدم ومضات سريعة على سجل حافل من الكرامة العربية . يعجز التاريخ عن حصره بأكمله أو إحصائه . هذا السجل لشعب دفع ومازال يدفع فاتورة العروبة حتى الآن . أنهم رجال 48 ورجال 56 وهم من ذاقوا طعم المرارة في 67 وأذاقوا العدو الذل والهوان في سنوات حرب الاستنزاف . وهم أبطال العاشر من رمضان السادس من أكتوبر 73 وهم من كسروا غطرسة وغرور العدو الصهيوني في ( 6 ) ساعات . إليكم أخواني وأخواتي أتقدم بهذه الحلقات وأتمنى من الله أن تنول ولو القليل من استحسانكم .
=======================================
بحر البقر
الزمان 8/4/1970 م المكان مدرسة بحر البقر الابتدائية بمركز
الحسينية بمحافظة الشرقية . الأطفال متوجهين إلى المدرسة .
صوت الضحكات تعلو لتملأ سماء البلدة والطرقات بالبهجة . الأمهات
تودع فلزات أكبادهن . يسدين لهم النصائح اليومية . لا تشاغب . أهتمي
يا ابنتي بشرح المدرسة . أرجع يا ( أمين ) بسرعة . فأني سأعد لك
الفطير الذي تحبه . يجري ( أمين ) بسرعة ليلحق بـ ( سلمى ) ابنة
عمه . فهو كبير في الصف الخامس . وهى صغيرة في الصف الثاني
الابتدائي . وهو ملزم بها . يمر عليها يصطحبها معه إلى المدرسة وعند
العودة أيضاً . عمه ( أبو ) سلمى كلفه بذلك . فهو أصبح رجل كبير في
الصف الخامس الابتدائي . آه لقد رآها . أنها واقفة على باب منزلها .
تمسك بيدها حقيبتها . ملاك هي في عينيه . وعند الله أيضاً . فهي لم
تذنب بعد . وهو أيضاً . صفحات حسابيهما بيضاء ناصعة . أمسك بيدها
الصغيرة . شق الطرقات بمرح . الهواء معطر بضحكات الملائكة
الصغار . كل منهم يخبئ حلمه في حقيبة مدرسته . هي تعلنه . سأصبح
طبيبة أداوى العجزة والأطفال . وهو يعلن عن نصف الحلم بأنه سيصبح
مهندساً يبني أبراج الحمام . أما النصف الآخر فمازال يخبئه في حقيبة
مدرسته . وهو أنه عندما يكبر سيتزوج من سلمى . ولم يحن الوقت
ليعلنه . وصلا للمدرسة . كابتن ( عمر ) مدرس التربية الرياضية .
يأمرهم بترك الكسل في طابور الصباح . مد . ثني . عالياً رفع . والأطفال
يؤدون بابتسامات مشرقة . عيون الأطفال ترتفع إلى أعلى . فالعلم الآن
يرفع . يرددون النشيد الوطني . ولم لا . وهم الأمل . هم الوطن .
الحاضر والمستقبل . كل منهم يردد النشيد وحلمه مخبوء داخل حقيبة
مدرسته . دخلوا حجرات الدراسة . أيديهم الصغيرة تخرج القلم الرصاص
والكراس . وبعينيه الصغيرة يطمئن على حلمه . خوفاً من أن يكون قد
وقع من حقيبته وهو قادم من منزله . الأستاذة ( وفاء ) تكتب ( بسم
الله ) بالطباشير الأبيض في منتصف السبورة السوداء. وطلبت من
الأطفال أن يفتحوا في الكراس صفحة جديدة بيضاء . أن يكتبوا تاريخ
اليوم 8 / أبريل / 1970 م ولم يكن الأطفال يعلموا أن هذا التاريخ
الذي سطروه بأيديهم لن ينسى . وما هي إلا لحظة وسمعوا عواء كعواء
الذئاب الجائعة آتية عليهم . ارتعد الأطفال . قالت لهم الأستاذة وفاء : لا
تخافوا يا أولادي إنها طائراتنا تحمينا من الغدر . وكانت المعلمة لا تعلم
بأن هذه هي طائرات الغدر نفسه . إنها طائرات ( الفانتوم ) وأكررها ...
( خسيسة الطبع وخسيسة المصدر ) يقودها رجال مشكوك في
رجولتهم . أهتز المكان . الصواريخ الجبانة
تتجه إلى سلمى . إلى أحمد . إلى ليلى . إلى زايد . كلهم في الصف الأول
والثاني . الغارة لم تحقق أهدافها بعد . أمرتهم القيادة الصهيونية بالعودة
إلى الهدف مرة أخرى . فمازال هناك الصف الثالث الرابع والخامس
والسادس الابتدائي لم يهدم . من فيهم لم يقتل . أطاع رجال الطيران
الإسرائيلي (الشجعان) أمر قائدهم وأعادوا الكرة . هدموا وحرقوا وقتلوا
سبعة وسبعون طفلاً ومدرسة ومدرساً . حرقوا الكتب والكراسات
والمكتبة . حرقوا الحلم المخبوء داخل حقائب الأطفال . قتلوا البسمة
قتلوا البراءة . قتلوا حتى الصرخة في حناجر الأطفال . أما أمين فقد طار
جسده الصغير من النافذة . فتح عينيه . لا يرى إلا اللون الأحمر . مسح
عينيه بيده الصغير . رأى الدم عليها . والسواد يعم المكان . رائحة
البارود وأجساد الأطفال المحترقة تقتحم أنفه الصغيرة عنوة . وهنا تذكر
سلمى . حاول أن يقف . لم يقوى . حاول مرة أخرى وأيضا كسابقتها .
فهو لم يلحظ أنه أصبح بقدم واحدة . زحف على بطنه . أنه يريد أن يرى
سلمى . وجد أشلاء في كل مكان . أه أنه رأى الآن سلمى بين الأنقاض .
رأى يدها مقطوعة وممسكة بقطعة خبز مخضبة بالدم . لا يهم ...
سأتزوجك حتى لو كنت بزراع واحدة يا سلمى . أخذ يسحبها من تحت
الأنقاض وهو على بطنه . أخيراً سحبها بعد عناء . ولكنه أكتشف أنه
( النصف العلوي ) فقط لسلمى . صرخ أين نصفك الآخر يا سلمى .
وغاب عن الوعي مرة أخرى
وهو يحتضن ( نصف ) ابنة عمه سلمى .
إلى اللقاء في الحلقة القادمة