من خلف عدستين محاطتين بإطار أسود..
انطلقت أشعة اللهف..
لتلامس سطورا اصطفت على ورق أمسكت به يد صاحبتها..
وببريق كاد أن يشعلها , أخذت تقرأ..
فصول الرواية..
وسكنت بجانبها حقيبة..
الساعة ( 2:00 ) بعد منتصف الليل..
رفعت عينيها المجهدتين..
على إثر ارتطام جسم معدني بأرض الغرفة..
لم يسعفها الضوء الخافت لتستبينه..
أغلقت روايتها..
وأسلمت جفنيها لمرافئ النوم..
فتحت عينيها مستجيبة لصوت المنبه المبحوح..
لمحت ما حولها بنظرة استكشافية..
أرخت رجليها من فوق السرير..
وبخطى متثاقلة , وجهتهما نحو الحمام..
وعقرب الساعة يشير إلى ( 3:00 ) عصرا..
أدت ما فاتها من فروض..
ولمساعدة أمها في إعداد الفطور , اتجهت نحو المطبخ..
رحيل: صباح الخير.
الأم(بعتاب): صباح النور والسرور , تو الناس.
رحيل: والله ! , يعني أروح أنام.
الأم: أقول , السلطة تنتظرك.
الساعة ( 10:00 ) مساء..
دخلت غرفتها وأغلقت الباب..
سارت نحو سريرها بشوق..
جلست , ومددت رجليها على وسادة أمامها..
وأردفت ظهرها لوسادة أخرى أكبر حجما..
أخذت نفسا عميقا..
سحبت الكتاب من على المنضدة..
فتحته حيث توقفت..
وغاصت في القراءة..
{ قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا۟ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ }
صوت ندي سرى إلى أذنها بهذه الآية..
من المؤكد أنه " هيثم " , أخاها الأصغر..
لقد اعتاد في مثل هذا الوقت أن يقرأ ورده اليومي..
ليس غريبا ؛ فهذه هي الليلة التاسعة عشر من رمضان..
حسنا , ستكمل هذا الفصل ثم ستقرأ ما تيسر من كتاب الله !!
نهضت على غير عادتها في ( 8:00 ) صباحا..
وبما أنها في رمضان , لن تستطيع الإفطار..
ولكنها أفطرت ! , على طبق من ورق..
روايتها المعشوقة..
وأخذت تلتهم السطور بنهم..
لم تكد تنهي آخر عبارة من نهاية الفصل..
حتى جحظت عيناها فزعا..
إثر صوت ارتطام على الأرض..
رمقت أرجاء الغرفة بنظرة عتاب..
لم تكن تلك المرة الأولى التي تسمع فيها هذا الصوت..
ولكن , ربما كانت الرواية تلعب دورا..
خصوصا أن النعاس قد لعب ألاعيبه بجفنيها..
احتضنت روايتها , ونـــامت..
( 8:30 ) مساء..
هجع الكون في سكون تام..
إلا من أصوات ندية , وانتحابات خاشعة..
ترددت من المساجد..
فالكل يصلي , إلا هي..!!
فقد تفوقت عليهم , ونوت اعتكافا..
على روايتها..
وبقصد الإخلاص ؛ سيكون ذلك خفية..
تجنبا للرياء !!
( 9:00 ) مساء..
طرقات باب , ثم فتح..
الأم: عسى ماشر متقوقعة في الغرفة ؟!.
رحيل: لا , لا ولاشي , شوي تنعبد وشوي نتثقف.
الأم: زين , بس لا تغلون في الثقافة.
رحيل: لاتوصين , وهالشهر فرصة وحدة بس ما تتعوض.
الأم: الله يهدينا وإياك إن شاء الله.
رحيل: آمين , يمه بغيتي شي ؟.
الأم: أبد , سلامتك.
بصراحـــة..
لم تكن ذات عزوف ديني..
بل كانت تحمل قلبا شفافا..
تحفظ شيئا لا بأس به من آيات الله..
تحمل هموما كبيرة , بالنسبة لهموم أترابها..
ولكن , ابن آدم..
لنفسه نزوات ..!!
الليلة ( التاسعة والعشرون )..
كانت في غرفتها تكمل آخر الترتيبات للعيد..
حينما انتهت , ألقت بنفسها على سريرها..
وأطلقت زفرة , أخرجت معها ما خلفه العمل من تعب..
لم تشعر يوما بمثل شعور غريب انتابها اليوم..
شعور بأنها فقدت غاليا ما , لا تعلم كنهه ؟!..
قبضت قلبها بشدة , محاولة تخفيف وطأة الضيق..
ولم يسعفها من هذه الآلام ؛ إلا صوت أباها مستندا على الباب , تسائل..
الأب: شخبار فلوس الغرفة ؟.
رحيل ( بنشوة ): تمام بس توها ما كملت عشان تكفي.
الأب: ما عليك , أنا بكملها هدية للعيد.
رحيل: عن جد !!.
وبقفزة شابهت قفزة الملدوغ من عقرب , نهضت وقبلت رأسه..
تسارعت خطاها نحو حقيبتها القابعة بجانب المنضدة..
فتحتها , عدتها..
رحيل: لاااااااااااااا , ناقصة !!..كانت سبع مية وين راحت ؟!.
وبحركة لا إرادية , أنحت حقيبتها عن مكانها..
لتجد الثلاث مئة المتبقية..
متدلية من شق أسفلها..
لم يكن الفرح كردة فعل طبيعية ما كان منها..
نظرت إلى الأفق بعين سابحة..
إذن , لم تكن تلك الأصوات أصواتا حقيقية..
ولكنها كانت , صدى لضميرها والذي لم تفهمه..
الأب: رحوول , وين رحتي ؟!.
رحيل: ها , لالا , طلعت مشقوقة وأنا أحسبها ضاعت.
الأب: الحمدلله , زين بعد العيد إن شاء اله نروح نختار الغرفة.
رحيل: إن شاء الله.
غرفتها التي حلمت بها طويلا..
لم تذهب , ولكن..
الساعات التي قضتها بين سطور روايتها / لن تعود..
حينها فقط , عرفت كنه الغالي المفقود..
والذي ذهب كسيرا..
أو بالأحرى ذهب غانما بمن احتفى به..
وهي التي بقيت جاهدة تجمع ما تبقى..
ولكن , كل ما عادت به..
تماما , هو ماعاد به / لاحس المبرد*..
فرمضان قد شد رحالــــه..